سورة البقرة - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)} [البقرة: 2/ 108].
أي بل أيها اليهود المنكرون للنّسخ أتريدون أن تطلبوا من رسولكم كما طلب آباؤكم اليهود من موسى عليه السّلام؟ فقد طلبوا منه أن يريهم الله جهرة. ومن يترك الثقة في القرآن ويشكّ في أحكامه، ويطلب غيرها فقد ضلّ السّبيل السّوي.
ومن أمثلة النّسخ في الشريعة: أن الصلاة شرعت أولا ركعتين بالغداة (صباحا) وركعتين بالعشي (مساء) رأفة بالناس ورحمة بهم، لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، ولم يكونوا قد تذوقوا حلاوة الصلاة، ولا عرفوا لذّة المناجاة فيها، فلما اطمأنّت نفوسهم بالصلاة، زادها الله على النحو التالي المعروف على حسب ما اقتضته الحكمة الإلهية العالية.
وأول ما نسخ من القرآن: القبلة، قال الله تعالى: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فصلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثم صرفه اللّه تعالى إلى البيت العتيق.
ومن أمثلة النّسخ: تحريم الخمر على مراحل أربع، فقد نفّر القرآن منها أولا بقوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النّحل: 16/ 67] فوصف تناول العنب والتمر على سبيل التفكّه بالحسن، ولم يوصف الشراب المسكر بتلك الصفة. ثم وصف اللّه الخمر والميسر (القمار) بأن فيهما إثما كبيرا، وإن كان فيهما منافع مادّية تجارية ومكاسب رابحة، ثم منع اللّه السّكارى من الصلاة حال السّكر، ثم حرّم اللّه الخمر تحريما قاطعا دائما إلى يوم القيامة.
وكانت عقوبة الزّانيات الحبس في البيوت حتى الموت، وعقوبة الزّناة التعيير باللسان والتوبيخ والضرب بالنّعال، ثم قرر اللّه الحكم الأخير وهو جلد الزانية والزاني مائة جلدة.
ولما كان عدد المسلمين في بدء الإسلام قليلا، وهم ضعاف لا يقوون على قتال المشركين، أمروا بالعفو والصفح، والصبر على الأعداء والإعراض عنهم، وترك مقاتليهم، حسبما تقتضي المصلحة، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 7/ 199].
ثم شرع اللّه القتال وأباح الجهاد للدفاع عن النفس وحرمات الإسلام، وإدراك لذّة النصر والظفر، قال اللّه تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 22/ 39].
موقف أهل الكتاب من المؤمنين ومن بعضهم بعضا:
لا يقتصر اليهود على كراهية العرب والشعوب الأخرى، وإنما يتمنّون أن يرتدّ المسلمون عن دينهم، وأن يعودوا لفوضويّتهم وضلالاتهم، وقالوا: لن يدخل الجنة إلا هم، وقابلهم النصارى بالمقولة نفسها بأنه لن يدخل الجنة إلا هم. وطعن كل من اليهود والنصارى بالآخرين، ونفوا أن يكون كل فريق على شيء صحيح من الدين، ونحو ذلك من الاتهامات المتبادلة، وإنكار الثقافات الأخرى. وهذا ما قررته الآيات التالية:


{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)} [البقرة: 2/ 109- 113].
تمنّى كثير من اليهود والنصارى أن يصرفوا المسلمين عن دينهم، وأن يعودوا كفّارا بعد أن كانوا مؤمنين، حسدا لهم، عن طريق التشكيك في الدين، وإلقاء الشبهات على المؤمنين، وطلب بعضهم من بعض أن يؤمنوا أول النهار، ويكفروا آخره، ليتأسى بهم ضعاف الإيمان.
فاعفوا أيها المسلمون واصفحوا عن أفعالهم، واصبروا حتى يأتي نصر اللّه لكم، ويأذن اللّه بالقتال، ويأتي أمره فيهم: وهو قتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير، واللّه هو القادر على تحقيق النصر.
قال ابن عباس: نزلت في نفر من اليهود قالوا للمسلمين بعد أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم، ولو كنتم على الحق، ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا، فهو خير لكم.
ومن أهم موجبات النصر: أداء الصلاة على وجه التمام والكمال، وإيتاء الزكاة للمستحقين، وتقديم الخير، فكل ما تعملونه من خير، تجدون جزاءه الوافي عند ربّكم، واللّه عالم بجميع أعمالكم، بصير بقليلها وكثيرها، لا تخفى عليه خافية، من خير أو شرّ، فالصلاة والزكاة من أهم أسباب النصر في الدنيا، وكذلك من أسباب السعادة في الآخرة.
وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيّا، وكل فئة تكفّر الأخرى، تلك تمنّياتهم الباطلة التي لا أساس لها، ولا فائدة منها، وإلا فهاتوا البرهان على ما تزعمون أيها الفريقان، إن كنتم صادقين في ادّعائكم.
ثم ردّ اللّه تعالى عليهم بقوله: (بلى) جوابا لإثبات نفي سابق، وردّا لما زعموه، فإن الذي يدخل الجنة: هو كل من انقاد لله تعالى، وأخلص في عمله، وهو محسن في عبادته وعمله واعتقاده، وهؤلاء لهم الأجر عند ربّهم، بلا خوف ولا حزن في الآخرة، خلافا لعبدة الأوثان والأصنام الذين هم في خوف مما يستقبلهم، وحزن مما ينزل بهم.
وحدث الخصام بين أهل الكتاب، فلم يكتفوا بما سبق، بل قالت اليهود: ليست النصارى على شيء من الدين يعتدّ به، فلا يؤمنون بالمسيح الذي بشرت به التوراة، والمسيح المبشّر به لمّا يأت بعد، وينتظرون ظهوره، وإعادته الملك لشعب إسرائيل.
وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء من الدين الصحيح، فأنكروا كون المسيح متمما لشريعة اليهود. قالوا ذلك، والحال أنهم أصحاب كتاب، يدّعون تلاوته ويؤمنون به، وقال المشركون الوثنيون الذين لا يعلمون شيئا مثل هذا القول لأهل كل دين: لستم على شيء، واللّه يحكم بين الجميع يوم القيامة، بقضائه العدل، فيما اختلفوا فيه، وتنازعوا في شأنه.
نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة، ونصارى أهل نجران، وذلك أن وفد نجران لما قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود، فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى والإنجيل، وقالت لهم النصارى: ما أنتم على شيء من الدين، فكفروا بموسى والتوراة، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
تخريب المساجد وهدمها وأدب الخطاب:
دأب اليهود على الاعتداء على حرمات المساجد وترويع المصلّين الآمنين ومحاولة هدمها من قديم، فلم تكن محاولتهم إحراق المسجد الأقصى في 21 آب سنة 1969 م والحفريات حوله منذ عام 1948 أمرا جديدا، فهم يريدون تدمير كل معالم الإسلام، وصروحه ومبانيه لتهويد المناطق العربية الإسلامية، ومنع أداء الصلاة في المساجد، كما فعل مشركو العرب في مبدأ الدعوة الإسلامية، حيث منعوا النّبي وأصحابه من دخول مكة ومن ذكر اللّه تعالى في المسجد الحرام، وقد غزا بختنصّر والروم فلسطين وخرّبوا بيت المقدس، وأغار الصليبيون على بيت المقدس وغيره من بلاد المسلمين والعرب، وصدوا المسلمين عن المسجد الأقصى، وخرّبوا كثيرا من المساجد، واستمر اليهود في تخريب المساجد في فلسطين بعد الاحتلال، مع أنه ليس هناك ظلم أكبر من تخريب المساجد ومنع الناس من الصلاة فيها، ولا أحد أظلم ممن منع ذكر اللّه في المساجد بأي طريق من الطرق، وسعى في تعطيلها عن القيام بوظائفها، وأولئك لهم الذّل والخزي في الدنيا، وفي الآخرة عذاب شديد عظيم.
قال اللّه تعالى:


{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)} [البقرة: 2/ 114- 115].
فإذا منع الناس من الصلاة في المساجد ففي أي مكان تصح الصلاة فيه، ويتم التوجه فيه إلى اللّه، فإن اللّه مع عباده، لا يحدّه مكان.
وكان من سوء أدب خطاب اليهود مع النّبي صلّى اللّه عليه وسلم كما تقدم أنهم يقولون له:
(راعنا) اسم فاعل من الرّعونة، وكان ذلك سبّا قبيحا عند اليهود، فقالوا: إنا كنّا نسبّ محمدا سرّا، والآن نعلن سبّه، فكانوا يأتون نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فيقولون: يا محمد راعنا، ويضحكون، ففطن بها رجل من الأنصار، وهو سعد بن معاذ، وكان عارفا بلغة اليهود، وقال: يا أعداء اللّه، عليكم لعنة اللّه، والذي نفس محمد بيده لئن سمعتها من رجل منكم لأضربنّ عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها؟ فأنزل اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)} [البقرة: 2/ 104].
وكان المسلمون إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم، قالوا: هذا الذي تدعوننا إليه ليس بخير مما نحن عليه، ولوددنا لو كان خيرا، فأنزل اللّه تعالى تكذيبا لهم: {ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} [البقرة: 2/ 105].
الادّعاءات الفارغة والافتراءات الكاذبة:
الألوهية والربوبية صفتان تقتضيان الكمال المطلق والتّفرد الذاتي والقدرة الشاملة على كل شيء من الخلق والإبداع، والرزق والإنعام، والدقة المتناهية والإحكام، وذلك لا يعقل أن يتصف به بشر من جنس الناس لأنه عاجز مثلهم، وقاصر غير قادر، وناقص غير كامل، وإنما الذي يحق أن يوصف بهذه الصفات الفريدة هو اللّه جلّ جلاله الذي خلق فسوّى، وقدّر فهدى، وله جميع ما في السماوات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، وتخضع لهيمنته وسلطانه كل شيء، أبدع السماء والأرض والوجود كله من غير سابقة شيء، ولا استعانة بأحد، إذا أراد أمرا، أوجده في الحال من غير امتناع ولا إباء.
ومن كان هذا شأنه، فلا يحتاج إلى الوالد والولد، ولا يشبهه شيء من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولا يوجد شيء من جنسه في الوجود، هو اللّه الواحد الأحد، الفرد الصمد (المقصود في الحوائج على الدوام) لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
هذا ما يقرره العقل الإنساني في أبسط محاكماته، فهل يعقل أن يتخذ هذا الإله ولدا له من خلقه؟ وهو خالق الخلق المتصف بالكمال والمنزه عن كل نقص، وهو الرّازق المنعم عليهم بجلائل المنعم وصغائرها، وإن أساؤوا له وجحدوا به، روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه عن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: «ليس أحد أصبر على أذى سمعه من اللّه، إنهم ليدعون له ولدا ويجعلون له أندادا، وهو مع ذلك يعافيهم ويرزقهم».
لذا ارتكب بعض البشر خطأ كبيرا حين نسبوا إلى اللّه الولد، فهذا مجرد ادّعاء أجوف، وحين طلبوا أن يكلمهم اللّه مباشرة كما يكلم الملائكة وموسى عليه السّلام استكبارا منهم وعتوّا وعنادا، وطلبوا أن تأتيهم آية مادّية محسوسة استخفافا منهم بآيات القرآن البيّنات، فهذا من الافتراءات الكاذبة، تنزه اللّه عن طلبهم، وأبان الآيات أحسن بيان وأتمه، ولكن لا يفهمها إلا العقلاء المنصفون.
ردّ اللّه تعالى على هذه الادّعاءات الفارغة والافتراءات الواهية، فقال سبحانه:

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13